[size=32]هولاكو في بلاد الشام
(في ذكرى دخول التتار لحلب: 9 من صفر 658هـ)
دخل المغول الهمج بغداد حاضرة الخلافة العباسية، معلنين سقوط المدينة التليدة والعاصمة المتلألئة بنجوم العلم والأدب والثقافة، في واحدة من كبرى المآسي التاريخية التي حلّت بتاريخ المسلمين والبشرية، وذلك في الرابع من صفر سنة 656م.
ولم يكن دخولهم المدينة دخول الفاتحين الذين يعرفون قيمة المدينة والحضارة، ويقدّرون حقوق الإنسان، وإنما كان دخول العواصف الهائجة التي تدمر في طريقها كل شيء، فاستباحوا المدينة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قُدّروا بنحو مليون قتيل، وأضرموا النار في أحياء المدينة، وهدموا المساجد والقصور، وخربوا المكتبات وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت قِبْلَة العلم ومركز الحضارة أثرًا بعد عين.
الهلع يصيب العالم الإسلامي
لم يتحرك قادة البلاد المجاورة لنجدة بغداد ونصرة خليفتهم، وإنما تركوا المدينة تلقى مصيرها المحتوم، دون أن تثور في نفوسهم الشجاعة والفداء، أو تتحرك في أفئدتهم أخلاق المروءة والنصرة، فاكتفوا بالمشاهدة ورؤية المآسي والنكبات التي حلّت بالمدينة البائسة، يقيد الخوفُ خَطْوهم وتحركهم، ويعصب الهلع أعينهم، ويملأ الخوف قلوبهم؛ فتوقفت عقولهم عن التفكير، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته لا يدري ما مصيره.
وليت الأمر اقتصر على الهلع والفزع الذي ملأ قلوب هؤلاء القادة، وإنما هرولوا إلى هولاكو، يقدمون له فروض الطاعة والولاء، ويعلنون خضوعهم لسلطانه وجاهه، ويهنئونه بما ناله من (فتح)، وما أحرزه من نصر، ولو كان على أشلاء مليون مسلم لقوا حتفهم في بغداد.
وكان ممن حضر لتهنئة هولاكو في بغداد (بدر الدين لؤلؤ) أتابك الموصل، وكان شيخًا في الثمانين من عمره فشكره هولاكو على تعاونه معه بما قدمه من جند وعتاد وخيول.
كما وفد عليه اثنان من سلاجقة الروم، بلغت الذلة وهوان النفس بأحدهما أن رسم صورته على زوج من الأحذية، وقدمه إلى هولاكو قائلا له: (عبدك يأمل أن يتفضل الملك فيُشرّف رأس عبده بوضع قدمه المباركة عليها)!!.
أوضاع الشام قبل حملة هولاكو
كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، فهم يسيطرون على ميافاريقين، وماردين، وحصن كيفا، والكرك، ودمشق، وحماة، وحمص، ولم تكن العلاقات بين حكام تلك البلاد ودية، على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة واحدة كريمة، هي أسرة صلاح الدين الأيوبي.
وبدلاً من أن توحّد المحنة التي حلت بالمسلمين بينهم، وتنظم صفوفهم في وجه الخطر الداهم ظلوا على عنادهم وخلافاتهم المستمرة دون تقدير للمسئولية، أو إحساس بالخطر القادم؛ فتساقطوا كأوراق الشجر على يد المغول، وسارع بعضهم بإعلان الخضوع قبل مجيء هولاكو.
موقف الناصر يوسف الأيوبي
كان الملك (الناصر يوسف الأيوبي) صاحب حلب ودمشق أقوى الأمراء الأيوبيين، وأكثر قدرة واستعدادًا لمواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل، وأطارت محنة بغداد قدرته على التصرف بحكمة، فأعلن مبكرًا خضوعه للمغول، وأرسل ابنه (العزيز) وكان صغير السن إلى هولاكو، يحمل إليه الهدايا والتحف ويهنئه بالنصر، ويعلن خضوعه لسلطانه، ويطلب منه أن يمده بنجدة تساعده على الاستيلاء على مصر، وتخليصها من حكم دولة المماليك الذين انتزعوا الملك من بيته.
لم يكتف الملك الناصر بالخضوع لحكم المغول الوثني، بل استنصره ضد إخوانه المسلمين، غير أن هولاكو رأى أن وفد الملك الناصر لا يناسب مقامه، ولا يرضي غروره، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه بنفسه، وتقديم آيات الخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج السلطان الأيوبي، وحل الفزع والهلع قلبه، وفقد رباطه جأشه، وأدرك أنه هالك لا محالة؛ فاستعد استعداد اليائس لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر، وجلس ينتظر ما تسفر عنه الأحداث.
خروج حملة هولاكو
خرج هولاكو في شهر رمضان (657 هـ= 1259م) مع حلفائه من أمراء جورجيا وأرمينيا من عاصمة دولته (مراغة) في أذربيجان، متجهًا إلى الشام، يهز الأرض بجيشه البالغ مائة وخمسين ألف جندي، فاستولى على مدينة ( ميافاريقين) عاصمة ديار بكر، وكانت تحت سيطرة الملك (الكامل محمد الأيوبي) الذي أبلى هو وجيشه بلاء حسنًا، وأظهروا فنونا من الشجاعة والفداء تثير الإعجاب والتقدير.
ولم تسقط المدينة إلا بعد أن عجزت عن المقاومة لقلة المؤن وانتشار الأوبئة، وهلاك أكثر الناس، واضطر الملك الكامل إلى التسليم، بعدما استنفد كل أسباب المقاومة ولم يعد للتصدي لزحف المغول جدوى.. وبعد التسليم قتل المغول الملك الشجاع شرّ قِتْلَة، وحملوا رأسه على رمح؛ انتقامًا منه لشجاعته ويقظته وشدة بأسه، وإشاعةً للفزع والهلع في نفوس المسلمين، ليقتنعوا بعدم جدوى الدفاع والصمود في وجه الطوفان المغولي.
الطريق إلى حلب
وبعد استيلاء هولاكو على ميافاريقين اتجه إلى ماردين، وكانت في قبضة الملك (السعيد) فوقف في وجه المغول موقفًا شجاعًا، فعجزوا عن اقتحام المدينة رغم الحصار المفروض عليها لمدة ثمانية أشهر، وحاول أحد أبناء الملك السعيد أن يدفع أباه إلى التسليم، فلما رفض قتله ذلك الولد العاق، وسلم المدينة لـ(هولاكو) فكافأه بأن جعله واليًا عليها بدلاً من أبيه.
وفي أثناء حصار هولاكو لماردين كانت جيوشه تستولي على مدن الشام، فاستولى على نصيبين، وحران، والرها.
سقوط حلب
استعدت حلب بقيادة حاكمها الأيوبي الملك (المعظم توران شاه) لمواجهة المغول الغزاة، واتفقت كلمة أهلها على الجهاد، ومواجهة هؤلاء الهمج، مهما كانت التضحيات، فلما وصل جيش الغزاة ضرب حصارا على المدينة، وبعث هولاكو برسالة إلى الملك المعظم يطلب فيها أن يسلمه المدينة، وأن يلقي بسلاحه ويهدم أسوار قلعة حلب وتحصينات المدينة.. وفي نظير ذلك سيعطيه الأمان لنفسه وشعبه، لكن توران شاه لم يجبه إلى ما طلب، وعزم على المقاومة، وأصرّ على الجهاد.
اشتعل القتال بين الجانبين، وعجز المغول عن اقتحام أسوار حلب، وأبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة البالغة والإقدام، وقدّموا تضحيات كثيرة؛ فاضطر هولاكو إلى رفع الحصار عن المدينة، لكنه عاد إليها مرة أخرى؛ خوفًا على هيبة جيوشه من الضياع، وإصرارًا على إخضاع أي مدينة مهما كان ثمن الحصار، وفي هذه المرة عاود الاتصال مرة أخرى بتوران شاه، مكررًا ما طلبه في المرة الأولى، وكان جواب السلطان الرفض لإنذار هولاكو ووعيده.
أمام إصرار أهل حلب على الدفاع اشتد حصار المغول للمدينة، ولجئوا إلى إقامة حائط مرتفع تجاه المدينة، ونصبوا عليه المجانيق التي راحت تضرب سور المدينة، حتى نجحوا في نقب السور.
وفي التاسع من صفر سنة 658 هـ الموافق 25 من يناير 1260م نجح المغول في اقتحام المدينة الصامدة، وأباحها هولاكو لجنوده سبعة أيام، فقتلوا أهلها وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا قصورها وبيوتها ومتاجرها، ونشروا الخراب في كل أرجائها، وقبل أن يغادروا المدينة تركوها شعلة من اللهب والدخان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[/size]
(في ذكرى دخول التتار لحلب: 9 من صفر 658هـ)
دخل المغول الهمج بغداد حاضرة الخلافة العباسية، معلنين سقوط المدينة التليدة والعاصمة المتلألئة بنجوم العلم والأدب والثقافة، في واحدة من كبرى المآسي التاريخية التي حلّت بتاريخ المسلمين والبشرية، وذلك في الرابع من صفر سنة 656م.
ولم يكن دخولهم المدينة دخول الفاتحين الذين يعرفون قيمة المدينة والحضارة، ويقدّرون حقوق الإنسان، وإنما كان دخول العواصف الهائجة التي تدمر في طريقها كل شيء، فاستباحوا المدينة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قُدّروا بنحو مليون قتيل، وأضرموا النار في أحياء المدينة، وهدموا المساجد والقصور، وخربوا المكتبات وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت قِبْلَة العلم ومركز الحضارة أثرًا بعد عين.
الهلع يصيب العالم الإسلامي
لم يتحرك قادة البلاد المجاورة لنجدة بغداد ونصرة خليفتهم، وإنما تركوا المدينة تلقى مصيرها المحتوم، دون أن تثور في نفوسهم الشجاعة والفداء، أو تتحرك في أفئدتهم أخلاق المروءة والنصرة، فاكتفوا بالمشاهدة ورؤية المآسي والنكبات التي حلّت بالمدينة البائسة، يقيد الخوفُ خَطْوهم وتحركهم، ويعصب الهلع أعينهم، ويملأ الخوف قلوبهم؛ فتوقفت عقولهم عن التفكير، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته لا يدري ما مصيره.
وليت الأمر اقتصر على الهلع والفزع الذي ملأ قلوب هؤلاء القادة، وإنما هرولوا إلى هولاكو، يقدمون له فروض الطاعة والولاء، ويعلنون خضوعهم لسلطانه وجاهه، ويهنئونه بما ناله من (فتح)، وما أحرزه من نصر، ولو كان على أشلاء مليون مسلم لقوا حتفهم في بغداد.
وكان ممن حضر لتهنئة هولاكو في بغداد (بدر الدين لؤلؤ) أتابك الموصل، وكان شيخًا في الثمانين من عمره فشكره هولاكو على تعاونه معه بما قدمه من جند وعتاد وخيول.
كما وفد عليه اثنان من سلاجقة الروم، بلغت الذلة وهوان النفس بأحدهما أن رسم صورته على زوج من الأحذية، وقدمه إلى هولاكو قائلا له: (عبدك يأمل أن يتفضل الملك فيُشرّف رأس عبده بوضع قدمه المباركة عليها)!!.
أوضاع الشام قبل حملة هولاكو
كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، فهم يسيطرون على ميافاريقين، وماردين، وحصن كيفا، والكرك، ودمشق، وحماة، وحمص، ولم تكن العلاقات بين حكام تلك البلاد ودية، على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة واحدة كريمة، هي أسرة صلاح الدين الأيوبي.
وبدلاً من أن توحّد المحنة التي حلت بالمسلمين بينهم، وتنظم صفوفهم في وجه الخطر الداهم ظلوا على عنادهم وخلافاتهم المستمرة دون تقدير للمسئولية، أو إحساس بالخطر القادم؛ فتساقطوا كأوراق الشجر على يد المغول، وسارع بعضهم بإعلان الخضوع قبل مجيء هولاكو.
موقف الناصر يوسف الأيوبي
كان الملك (الناصر يوسف الأيوبي) صاحب حلب ودمشق أقوى الأمراء الأيوبيين، وأكثر قدرة واستعدادًا لمواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل، وأطارت محنة بغداد قدرته على التصرف بحكمة، فأعلن مبكرًا خضوعه للمغول، وأرسل ابنه (العزيز) وكان صغير السن إلى هولاكو، يحمل إليه الهدايا والتحف ويهنئه بالنصر، ويعلن خضوعه لسلطانه، ويطلب منه أن يمده بنجدة تساعده على الاستيلاء على مصر، وتخليصها من حكم دولة المماليك الذين انتزعوا الملك من بيته.
لم يكتف الملك الناصر بالخضوع لحكم المغول الوثني، بل استنصره ضد إخوانه المسلمين، غير أن هولاكو رأى أن وفد الملك الناصر لا يناسب مقامه، ولا يرضي غروره، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه بنفسه، وتقديم آيات الخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج السلطان الأيوبي، وحل الفزع والهلع قلبه، وفقد رباطه جأشه، وأدرك أنه هالك لا محالة؛ فاستعد استعداد اليائس لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر، وجلس ينتظر ما تسفر عنه الأحداث.
خروج حملة هولاكو
خرج هولاكو في شهر رمضان (657 هـ= 1259م) مع حلفائه من أمراء جورجيا وأرمينيا من عاصمة دولته (مراغة) في أذربيجان، متجهًا إلى الشام، يهز الأرض بجيشه البالغ مائة وخمسين ألف جندي، فاستولى على مدينة ( ميافاريقين) عاصمة ديار بكر، وكانت تحت سيطرة الملك (الكامل محمد الأيوبي) الذي أبلى هو وجيشه بلاء حسنًا، وأظهروا فنونا من الشجاعة والفداء تثير الإعجاب والتقدير.
ولم تسقط المدينة إلا بعد أن عجزت عن المقاومة لقلة المؤن وانتشار الأوبئة، وهلاك أكثر الناس، واضطر الملك الكامل إلى التسليم، بعدما استنفد كل أسباب المقاومة ولم يعد للتصدي لزحف المغول جدوى.. وبعد التسليم قتل المغول الملك الشجاع شرّ قِتْلَة، وحملوا رأسه على رمح؛ انتقامًا منه لشجاعته ويقظته وشدة بأسه، وإشاعةً للفزع والهلع في نفوس المسلمين، ليقتنعوا بعدم جدوى الدفاع والصمود في وجه الطوفان المغولي.
الطريق إلى حلب
وبعد استيلاء هولاكو على ميافاريقين اتجه إلى ماردين، وكانت في قبضة الملك (السعيد) فوقف في وجه المغول موقفًا شجاعًا، فعجزوا عن اقتحام المدينة رغم الحصار المفروض عليها لمدة ثمانية أشهر، وحاول أحد أبناء الملك السعيد أن يدفع أباه إلى التسليم، فلما رفض قتله ذلك الولد العاق، وسلم المدينة لـ(هولاكو) فكافأه بأن جعله واليًا عليها بدلاً من أبيه.
وفي أثناء حصار هولاكو لماردين كانت جيوشه تستولي على مدن الشام، فاستولى على نصيبين، وحران، والرها.
سقوط حلب
استعدت حلب بقيادة حاكمها الأيوبي الملك (المعظم توران شاه) لمواجهة المغول الغزاة، واتفقت كلمة أهلها على الجهاد، ومواجهة هؤلاء الهمج، مهما كانت التضحيات، فلما وصل جيش الغزاة ضرب حصارا على المدينة، وبعث هولاكو برسالة إلى الملك المعظم يطلب فيها أن يسلمه المدينة، وأن يلقي بسلاحه ويهدم أسوار قلعة حلب وتحصينات المدينة.. وفي نظير ذلك سيعطيه الأمان لنفسه وشعبه، لكن توران شاه لم يجبه إلى ما طلب، وعزم على المقاومة، وأصرّ على الجهاد.
اشتعل القتال بين الجانبين، وعجز المغول عن اقتحام أسوار حلب، وأبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة البالغة والإقدام، وقدّموا تضحيات كثيرة؛ فاضطر هولاكو إلى رفع الحصار عن المدينة، لكنه عاد إليها مرة أخرى؛ خوفًا على هيبة جيوشه من الضياع، وإصرارًا على إخضاع أي مدينة مهما كان ثمن الحصار، وفي هذه المرة عاود الاتصال مرة أخرى بتوران شاه، مكررًا ما طلبه في المرة الأولى، وكان جواب السلطان الرفض لإنذار هولاكو ووعيده.
أمام إصرار أهل حلب على الدفاع اشتد حصار المغول للمدينة، ولجئوا إلى إقامة حائط مرتفع تجاه المدينة، ونصبوا عليه المجانيق التي راحت تضرب سور المدينة، حتى نجحوا في نقب السور.
وفي التاسع من صفر سنة 658 هـ الموافق 25 من يناير 1260م نجح المغول في اقتحام المدينة الصامدة، وأباحها هولاكو لجنوده سبعة أيام، فقتلوا أهلها وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا قصورها وبيوتها ومتاجرها، ونشروا الخراب في كل أرجائها، وقبل أن يغادروا المدينة تركوها شعلة من اللهب والدخان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[/size]