[size=32]علي دينار.. باني السلطنة والآبار
(في ذكرى مقتله: 11 من المحرم 1335 هـ)
حَكَمَ الْفُور -الذين يعودون في أصلهم إلى سليمان صولونج القادم من تونس والمنحدر من أصل عباسي، والذي تزوج من ملكة فور- سلطنة دارفور الإسلامية عدة قرون قبل أن تخضع تلك السلطنة لحكم المهديين في القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي).
ومع سيطرة المهديين على دارفور انتقل حكامها الأقدمون إلى جنوب غرب جبل مُرّة، حيث ولد لهم طفل أعاد لهم حكم دارفور، وكانت له في ذلك قصة.. إنه السلطان (علي دينار) آخر سلطان لدارفور الإسلامية، وباني (آبار علي) بالسعودية...
المولد وبداية الظهور
ولد علي دينار في قرية (شوية) بدارفور، ولا يوجد تاريخ محدد لولادته، لكن يمكن تقدير تاريخ مولده ما بين عام (1272هـ= 1856م) وعام (1287هـ=1870م). أما أبوه فهو (زكريا بن محمد فضل) ولا يوجد شيء عن طفولته أو نشأته أو شبابه، إلا أن أول ظهور له كان في (جمادى الآخرة 1306هـ= فبراير 1889م) عندما ساند عمه السلطان (أبو الخيرات) في تمرد (أبو جميزة)، ثم هرب مع عمه بعد هزيمة التمرد.
كان (الفور) الذين ينتمي إليهم (علي دينار) يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان (أبو الخيرات) في ظروف غامضة عام (1307 هـ=1890م) كانت المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من (علي دينار) المثول بين يديه في مقر رئاسته في (الأُبَيْض)، والخضوع لأمير المهدية في (الفاشر) –عاصمة دارفور- (عبد القادر دليل)، إلا أن (علي دينار) كان قلقا من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها، غير أن هناك أخبارا تؤكد أنه التقى بخليفة المهدي (عبد الله التعايشي) في عام (1309 هـ=1892م) وبايعه.
وهناك ارتباك ملحوظ في سيرته خلال هذه السنوات الست التي تلت تلك المقابلة، ومن الصعب حمل أي شيء فيها على اليقين التام. ويُقال لم يشترك في معركة (كرري) الفاصلة بين المهدية والإنجليز في (صفر 1310 هـ = سبتمبر 1898) والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من (أم درمان) خلسة مع 300 من أتباعه قاصدا دارفور.
السيطرة على الحكم في دارفور
قصد (علي دينار) الفاشر عاصمة دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى (أبو كودة) معلنا نفسه سلطانا عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى (أبو كودة) شاكرا صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع (أبو كودة) لهذا المطلب بعد تمنع، ودخل (دينار) الفاشر فاتحا لها بدون قتال.
كانت دارفور مطمعا لكثير من المتنافسين على الحكم، فعقب سقوط المهدية ظهر مطالبون بالحكم مثل (إبراهيم علي) –عمه السلطان أبو الخيرات- ونظرا لعلاقاته مع الإنجليز في حكومة السودان، فقد طلب أن يدعموه في مواجهة (علي دينار)، فقام السردار الإنجليزي (كتشنر) بدراسة الموقف في دارفور، والمقارنة بين (علي دينار) و(إبراهيم علي) أيهما يصلح للحكم، ورأى أنه من الحكمة عدم السماح بحدوث صراع في دارفور حفاظا على أمنها واستقرارها، وحتى لا تتورط حكومة السودان الخاضعة للإنجليز في صراع يحمل الخزينة تكاليف كبيرة نظرا لبعد دارفور وصعوبة مواصلاتها وندرة الطرق المعبدة للوصول إليها.
ولذا كتب (كتشنر) إلى (علي دينار) يحذره من القيام بأي عمل يكون من شأنه حدوث ثورة أو اضطراب في دارفور، ويخبره بأن الإنجليز يعلمون أنه لم يقاتلهم في (أم درمان) وأنه ترك الميدان قبل المعركة بيوم، وأنه من أحفاد السلاطين الذين حكموا دارفور. كما كتب إلى (إبراهيم) يحذره من الاشتباك مع (علي دينار).
هذا الحياد النسبي من الإنجليز في الصراع بين الرجلين كان فرصة ذهبية لعلي دينار لتدعيم سلطته في دارفور، وخوض معركة ضد (إبراهيم علي) والانتصار عليه في (14 من رمضان 1316 هـ= 26 من يناير 1899م) في منطقة (أم شنقة) داخل الحدود الشرقية لدارفور، وبعد هذا الانتصار سعى (علي دينار) إلى استمالة الإنجليز والتأكيد لهم أنه مخلص لحكومتهم في السودان وأنه يتمنى أن يعتبره حاكم السودان أحد موظفيه.
دينار والإنجليز
كان مستقبل العلاقة مع (علي دينار) من الأمور التي تشغل الإدارة الإنجليزية في السودان، وتتم مناقشتها على مستويات عليا، وبنى الإنجليز موقفهم على أن (علي دينار) استطاع أن يوطد نفسه سلطانا على دارفور، وستتكلف الحكومة الكثير إذا أرادت تغييره، كذلك فإنه يصر على إعلان الإخلاص والرغبة في طاعة حكومة السودان، وأن من الأفضل لتلك الحكومة أن تدير دارفور من خلال (دينار) وليس من خلال حاكم مصري أو إنجليزي، وتم توصيف (دينار) على أنه (صديق في الوقت الحاضر)، وبذلك أعاد الإنجليز العمل بالسياسة التي اتبعها الحاكم الإنجليزي (غوردون باشا) عندما ذهب إلى السودان سنة (1301 هـ=1884م) والتي كانت ترتكز على تدعيم حكم السلاطين المحليين كوسيلة فعالة لحكم السودان، ولذا اعترف الإنجليز بـ(دينار) كأمر واقع من الضروري التعامل معه.
وقد حدث تطور مهم سنة (1317 هـ=1900م) عندما تم تعيين البارون النمساوي (سلاطين باشا) –صاحب كتاب (السيف والنار في السودان)- مفتشا عاما للسودان، وكان من مسئولياته إقليم دارفور، وقد شددت الإدارة الإنجليزية في القاهرة برئاسة المعتمد البريطاني اللورد (كرومر) على (سلاطين) أن يحرص على إفهام (علي دينار) أن دارفور تقع ضمن منطقة النفوذ البريطاني-المصري، وأن الإدارة هي التي سمحت له بممارسة سلطات داخلية واسعة في دارفور، وكان الهدف من هذه السياسة تأكيد تبعية دارفور لحكومة السودان.
وأثناء رحلة (سلاطين) في السودان أكد لشيوخ القبائل أنه تم الاعتراف بعلي دينار ممثلا للحكومة في دارفور، وأن على الجميع أن يتعامل معه وفق هذا التوصيف، ورغم ذلك فقد تهرب (علي دينار) من مقابلة (سلاطين) أكثر من مرة عام (1318 هـ=1901م).
تدعيم سلطان الداخل
كان وضع دارفور فريدا داخل السودان؛ فهي من الناحية الفعلية لم تكن كباقي أقسام السودان رغم اعتراف بعض المعاهدات الدولية بكون الإقليم قسما من السودان، مثل معاهدة 12 مايو 1894م مع الكونغو، أو تصريح 21 مارس 1899م مع الفرنسيين، وكذلك رغم اعتراف "علي دينار" بكون دارفور قسما من السودان وقيامه بدفع جزية سنوية لحكومة السودان حتى عام 1915م، ورغم التبعية التي أبداها "علي دينار" لحكومة السودان فقد رفض دائما دخول أي موظف حكومي إلى دارفور.
وقد كانت السنوات الأولى لحكم على دينار مستقرة نسبيا وهي السنوات التي امتدت من (1319 هـ =1902م) حتى (1327 هـ=1909م)، ورغم أن علاقته بحكومة السودان لم تكن مستقرة نسبيا وكان عدم الثقة هو الأساس في التعامل، فإن هذه العلاقات كانت غير عدائية، وتتسم بالود الحذر، فكان (دينار) كلما حاول الاستزادة من مظاهر استقلاله الداخلي من خلال تعزيز مركزه داخل السودان أو إقامة علاقات خارجية بصفته الشخصية كسلطان لدارفور وقفت له حكومة السودان الخاضعة للإنجليز بالمرصاد.
مشكلات دينار
-العلاقة مع السنوسية: كانت الحركة السنوسية ذات التوجه الديني والإصلاحي قد اجتاحت صحاري شمال إفريقيا حتى حدود دارفور، وكانت ذات زخم وقبول واسع في تلك المناطق، وتزامن صعود هذه الحركة مع بداية حكم (علي دينار) ولذا رأى ضرورة عدم الدخول معها في مواجهة، مع عدم السماح لها بالامتداد داخل دارفور.
ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، لم يتجاوب (دينار) مع طلب الزعيم (محمد المهدي السنوسي) عندما طلب عام (1317 هـ=1900م) من السلطان (علي دينار) السماح له ولأتباعه بالعبور من الأراضي الدارفورية للذهاب إلى الحج، فتعلل بأن بلاده فقيرة جدا ولا تستطيع استضافة السنوسي ووفده الكبير، كما اعتذر عن عدم إقامة زاوية سنوسية في عاصمته (الفاشر)، ورغم ذلك رأى أن السنوسية ليست منافسة لدولته ويمكنه من خلال توثيق علاقاته بها الحصول على السلاح وبعض البنادق الحديثة.
-العلاقة مع سلطنة (واداي): وتقع هذه السلطنة الإسلامية في منطقة تشاد حاليا، وكانت من الممالك الإسلامية الشهيرة، وقد تعرضت في تلك الفترة لاضطرابات كثيرة أضعفتها وجعلتها مطمعا للاستعمار الفرنسي، حيث استطاع الفرنسيون الانتصار على سلطانها (رابح الزبير) في (22 من ذي الحجة 1317 هـ= 22 من إبريل 1900م) في منطقة (كوسري) على بعد خمسة أميال جنوب بحيرة تشاد، لكن سيطرتهم التامة على (واداي) لم تكتمل إلا عام (1326 هـ=1908م) عندما بسطوا سيطرتهم على المنطقة القريبة من الحدود مع دارفور، وهو ما أقلق (علي دينار) خاصة أن المنطقة الحدودية بين الجانبين كانت مسرحا للمناوشات.
وقد طلب (علي دينار) من حكومة السودان أن تسانده ضد الفرنسيين، وعندما تقاعست حكومة السودان عن مساندته كتب أول احتجاج إلى تلك الحكومة في (1327 هـ= 1909م) بشأن الانتهاكات الفرنسية الحدودية، ووجدت حكومة السودان نفسها في مأزق فتخطيط الحدود بين دارفور وواداي سيكون مستحيلا بدون جلاء الفرنسيين عن المنطقة الحدودية المتنازع عليها، والاعتراف بالادعاءات الفرنسية في تلك المناطق معناه نقض الهدنة مع (علي دينار)، بينما كان هناك اتجاه لعرض القضية على التحكيم، لكن حكومة السودان كانت ملتزمة ببقاء وضع (علي دينار) على ما هو عليه ورفضت رفضا قاطعا أن يقيم أية علاقات خارجية.
-العلاقة مع الجيوب المهدية: عندما سقطت الدولة المهدية في السودان بقي لها عدد من الجيوب في دارفور، وكان أبرز تلك الجيوب (عربي دفع الله) في المناطق الجنوبية من دارفور، و(الفكي سنين حسين) في الغرب، وقد شنت قوات (علي دينار) عدة هجمات على (دفع الله) ودفعته الخسائر التي مني بها إلى أن ينضم إلى (علي دينار) سنة (1320 هـ =1903م) وكان ذلك نهاية الجيب الأول.
أما (الفكي سنين) في منطقة (كباكية) فقد استغرق وقتا وتضحيات من (علي دينار) لتصفيته نظرا لقوته وتأثيره الديني، حيث وجه إليه (دينار) جيشا مكونا من أربعة آلاف مقاتل سنة (1317 هـ=1900م) بقيادة خادمه (كيران) لكن المهدية هزمت ذلك الجيش، فأرسل جيشا آخر في العام التالي من ستة آلاف مقاتل لكن المهدية هزمته، فأرسل جيشا ثالثا سنة (1319 هـ=1902م)من اثني عشر ألف مقاتل بقيادة (محمود ديدنجاوي) وهُزم أيضا.
لم ييئس (علي دينار) من تصفية ذلك الجيب واتبع سياسة الإجهاد الحربي المتواصل لـ(الفكي سنين) حيث قام بغارات متواصلة على منطقة (كباكية) عدة سنوات دون أن يخوض قتالا كبيرا، وفي سنة (1325 هـ= 1907م) وجه جيشا كبيرا وضرب حصارا على (الفكي) لمدة 17 شهرا وانتهى الأمر في (1327 هـ= 1909م) بدخول جيش دارفور (كباكية) وقتل (الفكي).
-العلاقات مع القبائل: شهدت الفترة الأولى من حكم (علي دينار) علاقات متوترة مع القبائل خاصة (المساليت) و(الرزيقات) و(الزيادية) و(المعالية) و(بني هلبة) وامتدت هذه الصراعات إلى نهاية حكمه، وكانت المشكلة الرئيسية هي انعدام الثقة بين الجانبين، فقد كان (علي دينار) يرغب في فرض سطوته عليهم، أما هم فكانوا خائفين منه ومن نمو قوته، وكان لهذه العلاقات المتوترة بينه وبين القبائل انعكاساتها في توتر العلاقة بينه وبين حكومة السودان، وفي استخدام الإنجليز للورقة القبلية ضد (علي دينار) أثناء الحرب ضده واحتلال دارفور بعد ذلك.
الانفتاح على الخارج
كان (علي دينار) حريصا على الانفتاح نحو الخارج وخلق نوع من التواصل بين دارفور والعالم الخارجي رغم حرص حكومة السودان على الوقوف له بالمرصاد في أي خطوة يقوم بها في هذا الاتجاه، فقد رفضت حكومة السودان التجاوب مع رغبة (علي دينار) في نشر كتاب عن حياته بعنوان (العمران) في القاهرة سنة (1330 هـ= 1912م) حيث رفض الحاكم العام للسودان هذا الأمر رفضا قطعيا، ولم يوافق إلا على طباعة ست نسخ فقط من الكتاب للاستخدام الشخصي للسلطان.
وقد تابع الإنجليز محاولات (علي دينار) الانفتاح على بعض الصحف المصرية، وراقبوا اتصالاته بجريدة (العمران) التي كانت تصدر في القاهرة ويُديرها (عبد المسيح الأنطاكي)، والتي كان يدعمها (دينار) بالمال، ورغم ذلك ؛ فقد كانت بعض الصحف المصرية النزيهة تنظر باحترام إلى (علي دينار) مثل صحيفة (اللواء) التي كان يُصدرها الزعيم المصري (مصطفى كامل) وتعتبره بادرة طيبة على طريق التحرر من السيطرة الاستعمارية، ونشرت مقالا مهما عنه في (2 من ربيع الآخر 1318 هـ=29 يوليو 1900م) عنوانه (علي دينار مسالم لا مستسلم)، ثم نشرت مقالا آخر بعد عامين بعنوان (محاولة التدخل الإنجليزي في شئون دارفور وفشلهم في ذلك).
وكان لعلي دينار دوره في العلاقات الإسلامية، فقام بحفر عدد من الآبار على مشارف المدينة المنورة عرفت بـ(آبار علي) نسبة إليه، وأصبحت ميقاتا لبعض الحجيج، كما كان له أوقاف بالحجاز.
أما موقفه من دولة الخلافة العثمانية، فكانت علاقته بها أثناء الحرب العالمية سببا رئيسيا في تحرك الإنجليز ضده للقضاء عليه وتقويض سلطنته؛ فعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى ودخلتها تركيا ضد إنجلترا، تغيرت الأوضاع ؛ فقد كانت مصر تابعة من الناحية الاسمية لدولة الخلافة، في حين أنها خاضعة من الناحية الفعلية لسيطرة الاحتلال الإنجليزي، وكان خديوي مصر (عباس حلمي) مساندا للخلافة ضد الإنجليز، ولذا قام الإنجليز بعزله وتعيين عمه (حسين كامل) سلطانا على مصر، وفي (18 من ربيع الأول 1333 هـ=3 من فبراير 1915م) أرسل وزير الحرب التركي (أنور باشا) خطابا إلى (علي دينار) يطلب منه مساندة تركيا في حربها ضد الحلفاء، وقد زاد من خطورة تلك الرسالة تحرك الأتراك مع السنوسية في ليبيا لتحريكهم ضد الوجود الفرنسي في بلاد المغرب ومنطقة تشاد، وضد الإنجليز في مصر والسودان.
الصدام والنهاية
ويبدو أن (علي دينار) بنى موقفه على أن ألمانيا وتركيا هما المنتصران في الحرب ضد الحلفاء، وأن عليه تقديم العون لتركيا حتى يجني ثمار هذه المساعدة بعد انتهاء الحرب، وإن كان ذلك لا يمنع انطلاق(علي دينار) من عاطفة وحمية دينية لمساندة دولة الخلافة ضد أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين الذين أطلق عليهم صفة (الكفار).
أما البريطانيون فرأوا أن (علي دينار) قام بانقلاب في السياسة الدارفورية الخارجية نظرا لأنه كان يعاني من فقدان شعبيته فأراد أن يعوض ذلك باللجوء إلى الدين، وأيا ما كان الدافع وراء تمرد (علي دينار) على الإنجليز فقد وقعت الوحشة ثم القتال بين الجانبين، ورأى الإنجليز في البداية ضرورة تأليب القبائل عليه لإضعاف سلطته تمهيدا لحربه، فتم تسليح قبائل (الرزيقات) وتحفيزهم ضده، وتم استغلال شائعة أن السلطان (علي دينار) يجهز تعزيزات من الفور في منطقة جبل الحلة كذريعة لحربه؛ خاصة بعد تحسن الموقف العسكري للإنجليز في مصر ونجاحهم في القضاء على خطر السنوسية على الحدود الغربية لمصر.
وقد بدأت الحرب بين الجانبين في ( ربيع الآخر 1334 هـ= مارس 1916م)، ووقعت عدة معارك داخل أراضي دارفور كان أهمها معركة (برنجيه) الواقعة قرب العاصمة الفاشر، وتمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل بعد أربعين دقيقة من القتال، وقتل في المعركة حوالي ألف رجل من جيش دارفور، وعندما علم (علي دينار) بالهزيمة استعد للقتال مرة أخرى للدفاع عن الفاشر، لكن الجيش الذي كان تحت يديه لم يكن مدربا ولم يكن يمتلك أي أسلحة حديثة، كما أن الإنجليز استخدموا الطائرات لأول مرة في إفريقيا، وكانت هذه المرة ضد جيش (علي دينار)، وتم لهم السيطرة على الفاشر في (22 من رجب 1334 هـ = 24 من مايو 1916م) ففر السلطان بأهله وحرسه نحو جبل مُرّة، وهناك تم اغتيال (علي دينار) أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه في (11 من المحرم 1335 هـ=6 من نوفمبر 1916م) بعدما رفض الإنجليز قبول أي تفاوض معه للاستسلام.
لقد عبر علي دينار عن تطور ملحوظ في الوعي السياسي للقادة المحليين في السودان وأفريقيا، وعن درجة كبيرة من الوعي الديني والإداري، حيث استطاع إقامة سلطنته في غرب السودان، وكون لها شبكة من العلاقات الخارجية كشفت عن وعي سياسي ناضج، وسعى لبناء سلطنته وفق نظام داخلي جيد مقارنة بالإمكانات التي كانت متاحة له في ذلك الوقت؛ حيث كوّن مجلسا للشورى، وعين مفتيا لسلطنته، ومجلسا للوزراء، وبدأ في تكوين جيش حديث، وأوكل تدريبه إلى ضابط مصري، ووضع نظاما للضرائب يستند إلى الشريعة الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــ[/size]
(في ذكرى مقتله: 11 من المحرم 1335 هـ)
حَكَمَ الْفُور -الذين يعودون في أصلهم إلى سليمان صولونج القادم من تونس والمنحدر من أصل عباسي، والذي تزوج من ملكة فور- سلطنة دارفور الإسلامية عدة قرون قبل أن تخضع تلك السلطنة لحكم المهديين في القرن الثالث عشر الهجري(التاسع عشر الميلادي).
ومع سيطرة المهديين على دارفور انتقل حكامها الأقدمون إلى جنوب غرب جبل مُرّة، حيث ولد لهم طفل أعاد لهم حكم دارفور، وكانت له في ذلك قصة.. إنه السلطان (علي دينار) آخر سلطان لدارفور الإسلامية، وباني (آبار علي) بالسعودية...
المولد وبداية الظهور
ولد علي دينار في قرية (شوية) بدارفور، ولا يوجد تاريخ محدد لولادته، لكن يمكن تقدير تاريخ مولده ما بين عام (1272هـ= 1856م) وعام (1287هـ=1870م). أما أبوه فهو (زكريا بن محمد فضل) ولا يوجد شيء عن طفولته أو نشأته أو شبابه، إلا أن أول ظهور له كان في (جمادى الآخرة 1306هـ= فبراير 1889م) عندما ساند عمه السلطان (أبو الخيرات) في تمرد (أبو جميزة)، ثم هرب مع عمه بعد هزيمة التمرد.
كان (الفور) الذين ينتمي إليهم (علي دينار) يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان (أبو الخيرات) في ظروف غامضة عام (1307 هـ=1890م) كانت المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من (علي دينار) المثول بين يديه في مقر رئاسته في (الأُبَيْض)، والخضوع لأمير المهدية في (الفاشر) –عاصمة دارفور- (عبد القادر دليل)، إلا أن (علي دينار) كان قلقا من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها، غير أن هناك أخبارا تؤكد أنه التقى بخليفة المهدي (عبد الله التعايشي) في عام (1309 هـ=1892م) وبايعه.
وهناك ارتباك ملحوظ في سيرته خلال هذه السنوات الست التي تلت تلك المقابلة، ومن الصعب حمل أي شيء فيها على اليقين التام. ويُقال لم يشترك في معركة (كرري) الفاصلة بين المهدية والإنجليز في (صفر 1310 هـ = سبتمبر 1898) والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من (أم درمان) خلسة مع 300 من أتباعه قاصدا دارفور.
السيطرة على الحكم في دارفور
قصد (علي دينار) الفاشر عاصمة دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى (أبو كودة) معلنا نفسه سلطانا عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى (أبو كودة) شاكرا صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع (أبو كودة) لهذا المطلب بعد تمنع، ودخل (دينار) الفاشر فاتحا لها بدون قتال.
كانت دارفور مطمعا لكثير من المتنافسين على الحكم، فعقب سقوط المهدية ظهر مطالبون بالحكم مثل (إبراهيم علي) –عمه السلطان أبو الخيرات- ونظرا لعلاقاته مع الإنجليز في حكومة السودان، فقد طلب أن يدعموه في مواجهة (علي دينار)، فقام السردار الإنجليزي (كتشنر) بدراسة الموقف في دارفور، والمقارنة بين (علي دينار) و(إبراهيم علي) أيهما يصلح للحكم، ورأى أنه من الحكمة عدم السماح بحدوث صراع في دارفور حفاظا على أمنها واستقرارها، وحتى لا تتورط حكومة السودان الخاضعة للإنجليز في صراع يحمل الخزينة تكاليف كبيرة نظرا لبعد دارفور وصعوبة مواصلاتها وندرة الطرق المعبدة للوصول إليها.
ولذا كتب (كتشنر) إلى (علي دينار) يحذره من القيام بأي عمل يكون من شأنه حدوث ثورة أو اضطراب في دارفور، ويخبره بأن الإنجليز يعلمون أنه لم يقاتلهم في (أم درمان) وأنه ترك الميدان قبل المعركة بيوم، وأنه من أحفاد السلاطين الذين حكموا دارفور. كما كتب إلى (إبراهيم) يحذره من الاشتباك مع (علي دينار).
هذا الحياد النسبي من الإنجليز في الصراع بين الرجلين كان فرصة ذهبية لعلي دينار لتدعيم سلطته في دارفور، وخوض معركة ضد (إبراهيم علي) والانتصار عليه في (14 من رمضان 1316 هـ= 26 من يناير 1899م) في منطقة (أم شنقة) داخل الحدود الشرقية لدارفور، وبعد هذا الانتصار سعى (علي دينار) إلى استمالة الإنجليز والتأكيد لهم أنه مخلص لحكومتهم في السودان وأنه يتمنى أن يعتبره حاكم السودان أحد موظفيه.
دينار والإنجليز
كان مستقبل العلاقة مع (علي دينار) من الأمور التي تشغل الإدارة الإنجليزية في السودان، وتتم مناقشتها على مستويات عليا، وبنى الإنجليز موقفهم على أن (علي دينار) استطاع أن يوطد نفسه سلطانا على دارفور، وستتكلف الحكومة الكثير إذا أرادت تغييره، كذلك فإنه يصر على إعلان الإخلاص والرغبة في طاعة حكومة السودان، وأن من الأفضل لتلك الحكومة أن تدير دارفور من خلال (دينار) وليس من خلال حاكم مصري أو إنجليزي، وتم توصيف (دينار) على أنه (صديق في الوقت الحاضر)، وبذلك أعاد الإنجليز العمل بالسياسة التي اتبعها الحاكم الإنجليزي (غوردون باشا) عندما ذهب إلى السودان سنة (1301 هـ=1884م) والتي كانت ترتكز على تدعيم حكم السلاطين المحليين كوسيلة فعالة لحكم السودان، ولذا اعترف الإنجليز بـ(دينار) كأمر واقع من الضروري التعامل معه.
وقد حدث تطور مهم سنة (1317 هـ=1900م) عندما تم تعيين البارون النمساوي (سلاطين باشا) –صاحب كتاب (السيف والنار في السودان)- مفتشا عاما للسودان، وكان من مسئولياته إقليم دارفور، وقد شددت الإدارة الإنجليزية في القاهرة برئاسة المعتمد البريطاني اللورد (كرومر) على (سلاطين) أن يحرص على إفهام (علي دينار) أن دارفور تقع ضمن منطقة النفوذ البريطاني-المصري، وأن الإدارة هي التي سمحت له بممارسة سلطات داخلية واسعة في دارفور، وكان الهدف من هذه السياسة تأكيد تبعية دارفور لحكومة السودان.
وأثناء رحلة (سلاطين) في السودان أكد لشيوخ القبائل أنه تم الاعتراف بعلي دينار ممثلا للحكومة في دارفور، وأن على الجميع أن يتعامل معه وفق هذا التوصيف، ورغم ذلك فقد تهرب (علي دينار) من مقابلة (سلاطين) أكثر من مرة عام (1318 هـ=1901م).
تدعيم سلطان الداخل
كان وضع دارفور فريدا داخل السودان؛ فهي من الناحية الفعلية لم تكن كباقي أقسام السودان رغم اعتراف بعض المعاهدات الدولية بكون الإقليم قسما من السودان، مثل معاهدة 12 مايو 1894م مع الكونغو، أو تصريح 21 مارس 1899م مع الفرنسيين، وكذلك رغم اعتراف "علي دينار" بكون دارفور قسما من السودان وقيامه بدفع جزية سنوية لحكومة السودان حتى عام 1915م، ورغم التبعية التي أبداها "علي دينار" لحكومة السودان فقد رفض دائما دخول أي موظف حكومي إلى دارفور.
وقد كانت السنوات الأولى لحكم على دينار مستقرة نسبيا وهي السنوات التي امتدت من (1319 هـ =1902م) حتى (1327 هـ=1909م)، ورغم أن علاقته بحكومة السودان لم تكن مستقرة نسبيا وكان عدم الثقة هو الأساس في التعامل، فإن هذه العلاقات كانت غير عدائية، وتتسم بالود الحذر، فكان (دينار) كلما حاول الاستزادة من مظاهر استقلاله الداخلي من خلال تعزيز مركزه داخل السودان أو إقامة علاقات خارجية بصفته الشخصية كسلطان لدارفور وقفت له حكومة السودان الخاضعة للإنجليز بالمرصاد.
مشكلات دينار
-العلاقة مع السنوسية: كانت الحركة السنوسية ذات التوجه الديني والإصلاحي قد اجتاحت صحاري شمال إفريقيا حتى حدود دارفور، وكانت ذات زخم وقبول واسع في تلك المناطق، وتزامن صعود هذه الحركة مع بداية حكم (علي دينار) ولذا رأى ضرورة عدم الدخول معها في مواجهة، مع عدم السماح لها بالامتداد داخل دارفور.
ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة، لم يتجاوب (دينار) مع طلب الزعيم (محمد المهدي السنوسي) عندما طلب عام (1317 هـ=1900م) من السلطان (علي دينار) السماح له ولأتباعه بالعبور من الأراضي الدارفورية للذهاب إلى الحج، فتعلل بأن بلاده فقيرة جدا ولا تستطيع استضافة السنوسي ووفده الكبير، كما اعتذر عن عدم إقامة زاوية سنوسية في عاصمته (الفاشر)، ورغم ذلك رأى أن السنوسية ليست منافسة لدولته ويمكنه من خلال توثيق علاقاته بها الحصول على السلاح وبعض البنادق الحديثة.
-العلاقة مع سلطنة (واداي): وتقع هذه السلطنة الإسلامية في منطقة تشاد حاليا، وكانت من الممالك الإسلامية الشهيرة، وقد تعرضت في تلك الفترة لاضطرابات كثيرة أضعفتها وجعلتها مطمعا للاستعمار الفرنسي، حيث استطاع الفرنسيون الانتصار على سلطانها (رابح الزبير) في (22 من ذي الحجة 1317 هـ= 22 من إبريل 1900م) في منطقة (كوسري) على بعد خمسة أميال جنوب بحيرة تشاد، لكن سيطرتهم التامة على (واداي) لم تكتمل إلا عام (1326 هـ=1908م) عندما بسطوا سيطرتهم على المنطقة القريبة من الحدود مع دارفور، وهو ما أقلق (علي دينار) خاصة أن المنطقة الحدودية بين الجانبين كانت مسرحا للمناوشات.
وقد طلب (علي دينار) من حكومة السودان أن تسانده ضد الفرنسيين، وعندما تقاعست حكومة السودان عن مساندته كتب أول احتجاج إلى تلك الحكومة في (1327 هـ= 1909م) بشأن الانتهاكات الفرنسية الحدودية، ووجدت حكومة السودان نفسها في مأزق فتخطيط الحدود بين دارفور وواداي سيكون مستحيلا بدون جلاء الفرنسيين عن المنطقة الحدودية المتنازع عليها، والاعتراف بالادعاءات الفرنسية في تلك المناطق معناه نقض الهدنة مع (علي دينار)، بينما كان هناك اتجاه لعرض القضية على التحكيم، لكن حكومة السودان كانت ملتزمة ببقاء وضع (علي دينار) على ما هو عليه ورفضت رفضا قاطعا أن يقيم أية علاقات خارجية.
-العلاقة مع الجيوب المهدية: عندما سقطت الدولة المهدية في السودان بقي لها عدد من الجيوب في دارفور، وكان أبرز تلك الجيوب (عربي دفع الله) في المناطق الجنوبية من دارفور، و(الفكي سنين حسين) في الغرب، وقد شنت قوات (علي دينار) عدة هجمات على (دفع الله) ودفعته الخسائر التي مني بها إلى أن ينضم إلى (علي دينار) سنة (1320 هـ =1903م) وكان ذلك نهاية الجيب الأول.
أما (الفكي سنين) في منطقة (كباكية) فقد استغرق وقتا وتضحيات من (علي دينار) لتصفيته نظرا لقوته وتأثيره الديني، حيث وجه إليه (دينار) جيشا مكونا من أربعة آلاف مقاتل سنة (1317 هـ=1900م) بقيادة خادمه (كيران) لكن المهدية هزمت ذلك الجيش، فأرسل جيشا آخر في العام التالي من ستة آلاف مقاتل لكن المهدية هزمته، فأرسل جيشا ثالثا سنة (1319 هـ=1902م)من اثني عشر ألف مقاتل بقيادة (محمود ديدنجاوي) وهُزم أيضا.
لم ييئس (علي دينار) من تصفية ذلك الجيب واتبع سياسة الإجهاد الحربي المتواصل لـ(الفكي سنين) حيث قام بغارات متواصلة على منطقة (كباكية) عدة سنوات دون أن يخوض قتالا كبيرا، وفي سنة (1325 هـ= 1907م) وجه جيشا كبيرا وضرب حصارا على (الفكي) لمدة 17 شهرا وانتهى الأمر في (1327 هـ= 1909م) بدخول جيش دارفور (كباكية) وقتل (الفكي).
-العلاقات مع القبائل: شهدت الفترة الأولى من حكم (علي دينار) علاقات متوترة مع القبائل خاصة (المساليت) و(الرزيقات) و(الزيادية) و(المعالية) و(بني هلبة) وامتدت هذه الصراعات إلى نهاية حكمه، وكانت المشكلة الرئيسية هي انعدام الثقة بين الجانبين، فقد كان (علي دينار) يرغب في فرض سطوته عليهم، أما هم فكانوا خائفين منه ومن نمو قوته، وكان لهذه العلاقات المتوترة بينه وبين القبائل انعكاساتها في توتر العلاقة بينه وبين حكومة السودان، وفي استخدام الإنجليز للورقة القبلية ضد (علي دينار) أثناء الحرب ضده واحتلال دارفور بعد ذلك.
الانفتاح على الخارج
كان (علي دينار) حريصا على الانفتاح نحو الخارج وخلق نوع من التواصل بين دارفور والعالم الخارجي رغم حرص حكومة السودان على الوقوف له بالمرصاد في أي خطوة يقوم بها في هذا الاتجاه، فقد رفضت حكومة السودان التجاوب مع رغبة (علي دينار) في نشر كتاب عن حياته بعنوان (العمران) في القاهرة سنة (1330 هـ= 1912م) حيث رفض الحاكم العام للسودان هذا الأمر رفضا قطعيا، ولم يوافق إلا على طباعة ست نسخ فقط من الكتاب للاستخدام الشخصي للسلطان.
وقد تابع الإنجليز محاولات (علي دينار) الانفتاح على بعض الصحف المصرية، وراقبوا اتصالاته بجريدة (العمران) التي كانت تصدر في القاهرة ويُديرها (عبد المسيح الأنطاكي)، والتي كان يدعمها (دينار) بالمال، ورغم ذلك ؛ فقد كانت بعض الصحف المصرية النزيهة تنظر باحترام إلى (علي دينار) مثل صحيفة (اللواء) التي كان يُصدرها الزعيم المصري (مصطفى كامل) وتعتبره بادرة طيبة على طريق التحرر من السيطرة الاستعمارية، ونشرت مقالا مهما عنه في (2 من ربيع الآخر 1318 هـ=29 يوليو 1900م) عنوانه (علي دينار مسالم لا مستسلم)، ثم نشرت مقالا آخر بعد عامين بعنوان (محاولة التدخل الإنجليزي في شئون دارفور وفشلهم في ذلك).
وكان لعلي دينار دوره في العلاقات الإسلامية، فقام بحفر عدد من الآبار على مشارف المدينة المنورة عرفت بـ(آبار علي) نسبة إليه، وأصبحت ميقاتا لبعض الحجيج، كما كان له أوقاف بالحجاز.
أما موقفه من دولة الخلافة العثمانية، فكانت علاقته بها أثناء الحرب العالمية سببا رئيسيا في تحرك الإنجليز ضده للقضاء عليه وتقويض سلطنته؛ فعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى ودخلتها تركيا ضد إنجلترا، تغيرت الأوضاع ؛ فقد كانت مصر تابعة من الناحية الاسمية لدولة الخلافة، في حين أنها خاضعة من الناحية الفعلية لسيطرة الاحتلال الإنجليزي، وكان خديوي مصر (عباس حلمي) مساندا للخلافة ضد الإنجليز، ولذا قام الإنجليز بعزله وتعيين عمه (حسين كامل) سلطانا على مصر، وفي (18 من ربيع الأول 1333 هـ=3 من فبراير 1915م) أرسل وزير الحرب التركي (أنور باشا) خطابا إلى (علي دينار) يطلب منه مساندة تركيا في حربها ضد الحلفاء، وقد زاد من خطورة تلك الرسالة تحرك الأتراك مع السنوسية في ليبيا لتحريكهم ضد الوجود الفرنسي في بلاد المغرب ومنطقة تشاد، وضد الإنجليز في مصر والسودان.
الصدام والنهاية
ويبدو أن (علي دينار) بنى موقفه على أن ألمانيا وتركيا هما المنتصران في الحرب ضد الحلفاء، وأن عليه تقديم العون لتركيا حتى يجني ثمار هذه المساعدة بعد انتهاء الحرب، وإن كان ذلك لا يمنع انطلاق(علي دينار) من عاطفة وحمية دينية لمساندة دولة الخلافة ضد أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين الذين أطلق عليهم صفة (الكفار).
أما البريطانيون فرأوا أن (علي دينار) قام بانقلاب في السياسة الدارفورية الخارجية نظرا لأنه كان يعاني من فقدان شعبيته فأراد أن يعوض ذلك باللجوء إلى الدين، وأيا ما كان الدافع وراء تمرد (علي دينار) على الإنجليز فقد وقعت الوحشة ثم القتال بين الجانبين، ورأى الإنجليز في البداية ضرورة تأليب القبائل عليه لإضعاف سلطته تمهيدا لحربه، فتم تسليح قبائل (الرزيقات) وتحفيزهم ضده، وتم استغلال شائعة أن السلطان (علي دينار) يجهز تعزيزات من الفور في منطقة جبل الحلة كذريعة لحربه؛ خاصة بعد تحسن الموقف العسكري للإنجليز في مصر ونجاحهم في القضاء على خطر السنوسية على الحدود الغربية لمصر.
وقد بدأت الحرب بين الجانبين في ( ربيع الآخر 1334 هـ= مارس 1916م)، ووقعت عدة معارك داخل أراضي دارفور كان أهمها معركة (برنجيه) الواقعة قرب العاصمة الفاشر، وتمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل بعد أربعين دقيقة من القتال، وقتل في المعركة حوالي ألف رجل من جيش دارفور، وعندما علم (علي دينار) بالهزيمة استعد للقتال مرة أخرى للدفاع عن الفاشر، لكن الجيش الذي كان تحت يديه لم يكن مدربا ولم يكن يمتلك أي أسلحة حديثة، كما أن الإنجليز استخدموا الطائرات لأول مرة في إفريقيا، وكانت هذه المرة ضد جيش (علي دينار)، وتم لهم السيطرة على الفاشر في (22 من رجب 1334 هـ = 24 من مايو 1916م) ففر السلطان بأهله وحرسه نحو جبل مُرّة، وهناك تم اغتيال (علي دينار) أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه في (11 من المحرم 1335 هـ=6 من نوفمبر 1916م) بعدما رفض الإنجليز قبول أي تفاوض معه للاستسلام.
لقد عبر علي دينار عن تطور ملحوظ في الوعي السياسي للقادة المحليين في السودان وأفريقيا، وعن درجة كبيرة من الوعي الديني والإداري، حيث استطاع إقامة سلطنته في غرب السودان، وكون لها شبكة من العلاقات الخارجية كشفت عن وعي سياسي ناضج، وسعى لبناء سلطنته وفق نظام داخلي جيد مقارنة بالإمكانات التي كانت متاحة له في ذلك الوقت؛ حيث كوّن مجلسا للشورى، وعين مفتيا لسلطنته، ومجلسا للوزراء، وبدأ في تكوين جيش حديث، وأوكل تدريبه إلى ضابط مصري، ووضع نظاما للضرائب يستند إلى الشريعة الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــ[/size]