[size=32]عبد الرحمن الثاني والعصر الذهبي للأمويين في الأندلس
(في ذكرى وفاته: 3 ربيع الآخر 238هـ)
شهدت الخلافة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الثاني ازدهارا كبيرا لم تشهده من قبل، وعاشت قرطبة أزهى عصورها في ظل الخليفة الأموي الشاب الذي أحب حياة الأبّهة والثراء، وعشق العلوم والفنون والآداب، واهتم كثيرا بنواحي العمران والزراعة، وكان له دور بارز في إنشاء أول أسطول حربي كبير في الأندلس.
ميلاد عبد الرحمن الثاني ونشأته
ولد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام الأموي بطليطلة سنة (176هـ=792م).
وكان منذ حداثة سنه شغوفا بالعلم، فدرس الأدب والحديث والفقه، وعُرف منذ حداثة سنه بالذكاء والنبوغ، وكان يتسم بشخصية قوية وعقل راجح، وفكر مستنير، وخلق حسن، وميل إلى الهدوء في حزم وقوة، وكان أديبا وشاعرا، خبيرا بشئون الحرب والسياسة، وهو ما جعله موضع ثقة أبيه، فكان يرسله في المهام العظيمة، ويندبه للأمور الجليلة، ويوليه قيادة الجند في حرب الفرنج.
الخليفة والرعية
وعندما توفي الحكم بن هشام في (27 من ذي الحجة 206هـ=14 من مايو 822م) خلفه ابنه عبد الرحمن على الملك، وهو في نحو الثلاثين من عمره، وقبل أن يتسلم الخليفة الشاب مقاليد الحكم فوجئ بخروج عم أبيه (عبد الله البلنسي) إليه لينتزع الملك منه، فتجهز له عبد الرحمن واستعد لمواجهته، وعندما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت عزيمته، وانسحب إلى بلنسية ثم ما لبث أن مات، فخلصت الإمارة لعبد الرحمن.
واتجه عبد الرحمن منذ اللحظة الأولى لتوليه الخلافة إلى محاولة مد جسور الثقة بينه وبين الرعية، والعمل على إزالة الآثار المؤلمة التي تركها أبوه في نفوس الناس بعد المذابح الذي تمت في عهده.
وكان عبد الرحمن مؤهلا بطبعه الهادئ ولين جانبه لاكتساب ثقة الناس فيه، والتفاهم حوله، واستعادة شعورهم الضائع بالأمان.
واستطاع عبد الرحمن أن يكتسب حب الناس له وثقتهم فيه بحكمته وذكائه في معالجة الأمور؛ فقد تغاضى عن كثير من الأخطاء، وأبدى قدرا كبيرا من السماحة واللين، وكان بعيدا عن الغدر والقسوة، لا يتسرع في اتخاذ القرار، ولا يلجأ إلى الشدة إلا بمقدار ما تقتضي الحاجة.
في مواجهة الفتن والتهديدات
لم تكن الفتن الداخلية التي تواجه عبد الرحمن تؤثر فيه كثيرا، ولم تكن مصدر قلق أو إزعاج حقيقي بالنسبة له، ومن ثم فلم يكن يتعجل إخمادها والقضاء عليها، وفي الوقت نفسه لم يكن يهملها حتى تزداد خطرا ويستفحل أمرها، وإنما كان يراقب تلك الفتنة والقلاقل وينتظر حتى تهدأ فيتمكن من إخمادها والقضاء عليها بأقل مجهود، كما فعل مع فتنة المضريين واليمنيين، والتي استمرت نحو سبع سنوات.
وكان عبد الرحمن شديد الاهتمام بتأمين حدود البلاد الشمالية، بعد أن تزايد عدوان الفرنجة عليها، فأرسل حملة عسكرية كبيرة بقيادة (عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث) سنة (208هـ=823م) وقد نجحت تلك الحملة في إلحاق الهزيمة بالنصارى المتربصين، وألحقت بهم خسائر كبيرة بعد أن أحرقت حصونهم، وقتلت منهم عددا كبيرا، وعادت الحملة إلى قرطبة محمّلة بالغنائم، وهي تسوق الأسرى والأسلاب.
وكان لهذه الحملة أثرها الكبير في ردع الفرنج، واستشعارهم قوة المسلمين، ووقوع هيبتهم في قلوب ملوك الفرنج.
القضاء على فتنة ماردة
وما لبثت البلاد أن تعرضت لعدد من الفتن والثورات والقلاقل الداخلية التي شملت ماردة وطليطلة ومدنًا أخرى.
وكانت فتنة ماردة من أكبر تلك الفتن وأشدها خطرا؛ فقد دامت سنوات عديدة، واستنفدت الكثير من الجهد والمال والدماء لإخمادها والقضاء عليها، وترجع بداية تلك الفتنة إلى عام (213هـ=828م) حينما ثار أهل ماردة على واليهم فقتلوه؛ فأرسل إليهم عبد الرحمن جيشا فحاصرها حتى أعلنوا طاعتهم له وأظهروا الطاعة والولاء، وأعطوا له الرهائن من أهلها، فعاد الجيش أدراجه بعد أن هدم أسوار المدينة، وأمر عبد الرحمن بإلقاء حجارة السور في النهر، حتى لا يعيد أهل ماردة بناء السور مرة أخرى.
ولكنهم سرعان ما عادوا إلى العصيان، وأسرو عامل عبد الرحمن عليهم، وجددوا بناء السور مرة أخرى؛ فسار إليهم بعد الرحمن في جيش كبير وجعل معه رهائن أهل ماردة، فلما حاصرهم أرسلوا إليه فبادلوا رهائنهم بالعامل الذي أسروه ومن كانوا معه.
وطال حصار عبد الرحمن لهم دون أن يتمكن من فتحها، فرجع بجيوشه، ثم أرسل إليهم جيشا آخر بعد ذلك عام (218هـ=833م) ففتحها.
عدوان النورمان على الأندلس
وظل عبد الرحمن يواصل الجهاد ضد الفرنج، فكان يرسل الجيوش إلى الشمال فتشتبك مع الفرنج في أطراف الثغر الأعلى، واستطاع في سنة (228هـ=842م) أن يلحق الهزيمة بملك بلاد البشكنس حتى اضطره إلى طلب الأمان، وكان عبد الرحمن يسعى من وراء تلك الحروب إلى تأمين بلاده، وفرض هيبته وقوته على البشكنس؛ حتى لا يفكروا في مهاجمة بلاده مرة أخرى.
وابتداء من سنة (229هـ=843م) تعرضت الشواطئ الغربية للأندلس لغارات النورمان، وهم أهل الشمال من سكان(إسكنديناوة) و(دانيماركة) الذين كانوا في أوج قوتهم، فكانوا يغيرون على شواطئ أوروبا الغربية بأساطيل من سفن صغيرة ذات أشرعة سوداء، وكانت تدخل مصبات الأنهار وترسو داخل البلاد، وتغير على المدن، فتعمل فيها نهبًا وتخريبًا ثم تحرقها قبل أن تولّي هاربة.
وكان أول ظهورها قرب شواطئ (أشبونة) فكتب واليها (وهب الله بن حزم) إلى عبد الرحمن يخبره بذلك فأرسل إلى عماله يطلب منهم الاستعداد واليقظة.
وتقدم أسطول النورمان فأغار على (قادس)، وتقدمت قواتهم داخل البلاد، ونهبوا وأحرقوا الكثير من ديارها، كما أحرقوا المسجد الجامع، فتصدى لهم عبد الرحمن بجيوشه في عدة معارك عنيفة، حتى استطاع المسلمون أن يوقعوا بالنورمان هزيمة كبيرة عند طليطلة شمال إشبيلية سنة (230هـ=844م).
إنشاء الأسطول الإسلامي
كان من نتيجة العدوان النورماني على المسلمين، وعدم وجود قوة حربية بحرية للمسلمين للتصدي لهم ومواجهتهم، والرد على عدوانهم؛ أن تنبّه عبد الرحمن إلى أهمية إنشاء أسطول بحري للمسلمين.
بدأ عبد الرحمن خطوات سريعة نحو إنشاء دور لصناعة السفن، واتخاذ عدد من القواعد البحرية الإسلامية، ولم تكد تمضي عدة سنوات حتى كان للأندلس أسطولان قويان: أحدهما يعمل في المحيط الأطلسي ومركزه أشبونة، والثاني في البحر المتوسط وقاعدته مالقة.
ومع انتصاف القرن التاسع الميلادي بدأت الأندلس تظهر كقوة بحرية كبرى في المنطقة، وكانت أولى ثمار إنشاء ذلك الأسطول فتح جزر البليار الكبرى الثلاث: ميورقة، ومنورقة، ويابسة التي ضُمّت إلى الأندلس، وأصبحت منذ عام (235هـ=849م) ولاية أندلسية تُعرف باسم ولاية الجزائر الشرقية.
فتنة الرهبان المسيحيين
وفي نهاية عهد عبد الرحمن الثاني ظهرت فتنة كبرى، أثارها نفر من الرهبان المتعصبين، الذين أثارهم الحقد وأعماهم التعصب، فراحوا يسخرون من الإسلام، ويستهزئون به ويجاهرون بالعداوة له، وإهانة مقدساته علنًا أمام الناس، فكان رجال الشرطة يقبضون عليهم ويقتادونهم إلى القضاة الذين يحاولون استتابتهم دون جدوى، فيحكمون عليهم بالإعدام، وكان هذا ما يسعى إليه هؤلاء حتى يثيروا عواطف الناس، ويصيروا في صورة الشهداء، وكثر خروجهم على هذا النحو منذ سنة (237هـ=851م).
وقد أظهر عبد الرحمن الثاني من الحكمة والروية وبُعد النظر في الأمور ما مكّنه من معالجة تلك المشكلة بقدر كبير من الصبر والأناة وحسن التصرف، فطلب من زعماء النصارى أن يعقدوا مجمعًا دينيًا في قرطبة للنظر في أمر هذه المحنة بالحكمة والعقل.
وبالفعل انعقد المجمع، وأصدر قرارا يستنكر فيه هذه الحركة الحمقاء، وما لبثت الأمور أن هدأت، وعاد الوئام بين المسلمين والنصارى.
حضارة وعمران مع عبد الرحمن
وبعد ذلك بنحو عام توفي (عبد الرحمن الثاني) في (3 من ربيع الآخر 238هـ=23 من سبتمبر 852م) بعد حكم دام إحدى وثلاثين سنة.
وكانت تلك الفترة تعد من أزهى فترات التاريخ الأندلسي التي اتسمت بالعديد من مظاهر العمران والتحضر، وتمتعت البلاد خلالها بالرفاهية والرخاء؛ فقد اهتم عبد الرحمن بالنواحي الحضارية والعمرانية، وكان له اهتمام خاص بالمنشآت والمباني، فبنى مسجد إشبيلية الجامع، وزاد في مسجد قرطبة قدر بهوين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء الجديد، وأقام أقواسا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت الأقواس المزدوجة من روائع العمارة الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفا، تُزرع فيه أشجار النارنج، حتى يتنسم المصلون في المسجد رائحته الطيبة، ولا يزال المسجد قائما حتى اليوم بكل عقوده وأروقته، ومحاريبه، ولكن لحقت به يد التعصّب فحولته إلى كاتدرائية في القرن السادس عشر الميلادي.
كما ظهر في هذه الفترة عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء، والمبدعين، ومن أبرزهم: عباس بن فرناس الفيلسوف والرياضي والشاعر المعروف وصاحب أول محاولة للطيران، ويحيى بن يحيى الليثي الفقيه والقاضي الشهير، وزرياب الموسيقي المعروف الذي ابتكر طريقة لكتابة الموسيقى، ويحيى بن حكم الجياني المعروف بالغزال الشاعر الفيلسوف.[/size]
(في ذكرى وفاته: 3 ربيع الآخر 238هـ)
شهدت الخلافة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الثاني ازدهارا كبيرا لم تشهده من قبل، وعاشت قرطبة أزهى عصورها في ظل الخليفة الأموي الشاب الذي أحب حياة الأبّهة والثراء، وعشق العلوم والفنون والآداب، واهتم كثيرا بنواحي العمران والزراعة، وكان له دور بارز في إنشاء أول أسطول حربي كبير في الأندلس.
ميلاد عبد الرحمن الثاني ونشأته
ولد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام الأموي بطليطلة سنة (176هـ=792م).
وكان منذ حداثة سنه شغوفا بالعلم، فدرس الأدب والحديث والفقه، وعُرف منذ حداثة سنه بالذكاء والنبوغ، وكان يتسم بشخصية قوية وعقل راجح، وفكر مستنير، وخلق حسن، وميل إلى الهدوء في حزم وقوة، وكان أديبا وشاعرا، خبيرا بشئون الحرب والسياسة، وهو ما جعله موضع ثقة أبيه، فكان يرسله في المهام العظيمة، ويندبه للأمور الجليلة، ويوليه قيادة الجند في حرب الفرنج.
الخليفة والرعية
وعندما توفي الحكم بن هشام في (27 من ذي الحجة 206هـ=14 من مايو 822م) خلفه ابنه عبد الرحمن على الملك، وهو في نحو الثلاثين من عمره، وقبل أن يتسلم الخليفة الشاب مقاليد الحكم فوجئ بخروج عم أبيه (عبد الله البلنسي) إليه لينتزع الملك منه، فتجهز له عبد الرحمن واستعد لمواجهته، وعندما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت عزيمته، وانسحب إلى بلنسية ثم ما لبث أن مات، فخلصت الإمارة لعبد الرحمن.
واتجه عبد الرحمن منذ اللحظة الأولى لتوليه الخلافة إلى محاولة مد جسور الثقة بينه وبين الرعية، والعمل على إزالة الآثار المؤلمة التي تركها أبوه في نفوس الناس بعد المذابح الذي تمت في عهده.
وكان عبد الرحمن مؤهلا بطبعه الهادئ ولين جانبه لاكتساب ثقة الناس فيه، والتفاهم حوله، واستعادة شعورهم الضائع بالأمان.
واستطاع عبد الرحمن أن يكتسب حب الناس له وثقتهم فيه بحكمته وذكائه في معالجة الأمور؛ فقد تغاضى عن كثير من الأخطاء، وأبدى قدرا كبيرا من السماحة واللين، وكان بعيدا عن الغدر والقسوة، لا يتسرع في اتخاذ القرار، ولا يلجأ إلى الشدة إلا بمقدار ما تقتضي الحاجة.
في مواجهة الفتن والتهديدات
لم تكن الفتن الداخلية التي تواجه عبد الرحمن تؤثر فيه كثيرا، ولم تكن مصدر قلق أو إزعاج حقيقي بالنسبة له، ومن ثم فلم يكن يتعجل إخمادها والقضاء عليها، وفي الوقت نفسه لم يكن يهملها حتى تزداد خطرا ويستفحل أمرها، وإنما كان يراقب تلك الفتنة والقلاقل وينتظر حتى تهدأ فيتمكن من إخمادها والقضاء عليها بأقل مجهود، كما فعل مع فتنة المضريين واليمنيين، والتي استمرت نحو سبع سنوات.
وكان عبد الرحمن شديد الاهتمام بتأمين حدود البلاد الشمالية، بعد أن تزايد عدوان الفرنجة عليها، فأرسل حملة عسكرية كبيرة بقيادة (عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث) سنة (208هـ=823م) وقد نجحت تلك الحملة في إلحاق الهزيمة بالنصارى المتربصين، وألحقت بهم خسائر كبيرة بعد أن أحرقت حصونهم، وقتلت منهم عددا كبيرا، وعادت الحملة إلى قرطبة محمّلة بالغنائم، وهي تسوق الأسرى والأسلاب.
وكان لهذه الحملة أثرها الكبير في ردع الفرنج، واستشعارهم قوة المسلمين، ووقوع هيبتهم في قلوب ملوك الفرنج.
القضاء على فتنة ماردة
وما لبثت البلاد أن تعرضت لعدد من الفتن والثورات والقلاقل الداخلية التي شملت ماردة وطليطلة ومدنًا أخرى.
وكانت فتنة ماردة من أكبر تلك الفتن وأشدها خطرا؛ فقد دامت سنوات عديدة، واستنفدت الكثير من الجهد والمال والدماء لإخمادها والقضاء عليها، وترجع بداية تلك الفتنة إلى عام (213هـ=828م) حينما ثار أهل ماردة على واليهم فقتلوه؛ فأرسل إليهم عبد الرحمن جيشا فحاصرها حتى أعلنوا طاعتهم له وأظهروا الطاعة والولاء، وأعطوا له الرهائن من أهلها، فعاد الجيش أدراجه بعد أن هدم أسوار المدينة، وأمر عبد الرحمن بإلقاء حجارة السور في النهر، حتى لا يعيد أهل ماردة بناء السور مرة أخرى.
ولكنهم سرعان ما عادوا إلى العصيان، وأسرو عامل عبد الرحمن عليهم، وجددوا بناء السور مرة أخرى؛ فسار إليهم بعد الرحمن في جيش كبير وجعل معه رهائن أهل ماردة، فلما حاصرهم أرسلوا إليه فبادلوا رهائنهم بالعامل الذي أسروه ومن كانوا معه.
وطال حصار عبد الرحمن لهم دون أن يتمكن من فتحها، فرجع بجيوشه، ثم أرسل إليهم جيشا آخر بعد ذلك عام (218هـ=833م) ففتحها.
عدوان النورمان على الأندلس
وظل عبد الرحمن يواصل الجهاد ضد الفرنج، فكان يرسل الجيوش إلى الشمال فتشتبك مع الفرنج في أطراف الثغر الأعلى، واستطاع في سنة (228هـ=842م) أن يلحق الهزيمة بملك بلاد البشكنس حتى اضطره إلى طلب الأمان، وكان عبد الرحمن يسعى من وراء تلك الحروب إلى تأمين بلاده، وفرض هيبته وقوته على البشكنس؛ حتى لا يفكروا في مهاجمة بلاده مرة أخرى.
وابتداء من سنة (229هـ=843م) تعرضت الشواطئ الغربية للأندلس لغارات النورمان، وهم أهل الشمال من سكان(إسكنديناوة) و(دانيماركة) الذين كانوا في أوج قوتهم، فكانوا يغيرون على شواطئ أوروبا الغربية بأساطيل من سفن صغيرة ذات أشرعة سوداء، وكانت تدخل مصبات الأنهار وترسو داخل البلاد، وتغير على المدن، فتعمل فيها نهبًا وتخريبًا ثم تحرقها قبل أن تولّي هاربة.
وكان أول ظهورها قرب شواطئ (أشبونة) فكتب واليها (وهب الله بن حزم) إلى عبد الرحمن يخبره بذلك فأرسل إلى عماله يطلب منهم الاستعداد واليقظة.
وتقدم أسطول النورمان فأغار على (قادس)، وتقدمت قواتهم داخل البلاد، ونهبوا وأحرقوا الكثير من ديارها، كما أحرقوا المسجد الجامع، فتصدى لهم عبد الرحمن بجيوشه في عدة معارك عنيفة، حتى استطاع المسلمون أن يوقعوا بالنورمان هزيمة كبيرة عند طليطلة شمال إشبيلية سنة (230هـ=844م).
إنشاء الأسطول الإسلامي
كان من نتيجة العدوان النورماني على المسلمين، وعدم وجود قوة حربية بحرية للمسلمين للتصدي لهم ومواجهتهم، والرد على عدوانهم؛ أن تنبّه عبد الرحمن إلى أهمية إنشاء أسطول بحري للمسلمين.
بدأ عبد الرحمن خطوات سريعة نحو إنشاء دور لصناعة السفن، واتخاذ عدد من القواعد البحرية الإسلامية، ولم تكد تمضي عدة سنوات حتى كان للأندلس أسطولان قويان: أحدهما يعمل في المحيط الأطلسي ومركزه أشبونة، والثاني في البحر المتوسط وقاعدته مالقة.
ومع انتصاف القرن التاسع الميلادي بدأت الأندلس تظهر كقوة بحرية كبرى في المنطقة، وكانت أولى ثمار إنشاء ذلك الأسطول فتح جزر البليار الكبرى الثلاث: ميورقة، ومنورقة، ويابسة التي ضُمّت إلى الأندلس، وأصبحت منذ عام (235هـ=849م) ولاية أندلسية تُعرف باسم ولاية الجزائر الشرقية.
فتنة الرهبان المسيحيين
وفي نهاية عهد عبد الرحمن الثاني ظهرت فتنة كبرى، أثارها نفر من الرهبان المتعصبين، الذين أثارهم الحقد وأعماهم التعصب، فراحوا يسخرون من الإسلام، ويستهزئون به ويجاهرون بالعداوة له، وإهانة مقدساته علنًا أمام الناس، فكان رجال الشرطة يقبضون عليهم ويقتادونهم إلى القضاة الذين يحاولون استتابتهم دون جدوى، فيحكمون عليهم بالإعدام، وكان هذا ما يسعى إليه هؤلاء حتى يثيروا عواطف الناس، ويصيروا في صورة الشهداء، وكثر خروجهم على هذا النحو منذ سنة (237هـ=851م).
وقد أظهر عبد الرحمن الثاني من الحكمة والروية وبُعد النظر في الأمور ما مكّنه من معالجة تلك المشكلة بقدر كبير من الصبر والأناة وحسن التصرف، فطلب من زعماء النصارى أن يعقدوا مجمعًا دينيًا في قرطبة للنظر في أمر هذه المحنة بالحكمة والعقل.
وبالفعل انعقد المجمع، وأصدر قرارا يستنكر فيه هذه الحركة الحمقاء، وما لبثت الأمور أن هدأت، وعاد الوئام بين المسلمين والنصارى.
حضارة وعمران مع عبد الرحمن
وبعد ذلك بنحو عام توفي (عبد الرحمن الثاني) في (3 من ربيع الآخر 238هـ=23 من سبتمبر 852م) بعد حكم دام إحدى وثلاثين سنة.
وكانت تلك الفترة تعد من أزهى فترات التاريخ الأندلسي التي اتسمت بالعديد من مظاهر العمران والتحضر، وتمتعت البلاد خلالها بالرفاهية والرخاء؛ فقد اهتم عبد الرحمن بالنواحي الحضارية والعمرانية، وكان له اهتمام خاص بالمنشآت والمباني، فبنى مسجد إشبيلية الجامع، وزاد في مسجد قرطبة قدر بهوين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء الجديد، وأقام أقواسا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت الأقواس المزدوجة من روائع العمارة الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفا، تُزرع فيه أشجار النارنج، حتى يتنسم المصلون في المسجد رائحته الطيبة، ولا يزال المسجد قائما حتى اليوم بكل عقوده وأروقته، ومحاريبه، ولكن لحقت به يد التعصّب فحولته إلى كاتدرائية في القرن السادس عشر الميلادي.
كما ظهر في هذه الفترة عدد كبير من العلماء والفقهاء والأدباء، والمبدعين، ومن أبرزهم: عباس بن فرناس الفيلسوف والرياضي والشاعر المعروف وصاحب أول محاولة للطيران، ويحيى بن يحيى الليثي الفقيه والقاضي الشهير، وزرياب الموسيقي المعروف الذي ابتكر طريقة لكتابة الموسيقى، ويحيى بن حكم الجياني المعروف بالغزال الشاعر الفيلسوف.[/size]