السؤال
السؤال هو: إذا كنتم لا تعلمون من أين جاءت كلمة العقيدة، فهذا دليل علي أنها ليست من الوحي وأنها ليست بدين، وأنا أعجب حقيقة من القول بالعقيدة بينما هناك كلمة أخرى عندنا اسمها: الملة ـ فإذا كان لا مشاحة في الاصطلاح فكلام الله فوق الاصطلاح.الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كان يكفي الأخ السائل ما قرره من رفع المشاحة عن الاصطلاح، ليهون من نكيره! فإنه لا يخفى أن هذا الاصطلاح لا يعارض أو يخالف شيئا من كلام الله تعالى، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن هذا المصطلح ينتظم محتواه ألفاظ الوحي المتعلقة بموضوعه: كالإيمان، والوحي، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والغيب... إلخ، ففي علم العقيدة تُقرَّر هذه الألفاظ الشرعية وتشرح وتبين.
وأما الادعاء بأن لفظة العقيدة ليست من الوحي ولا من الدين: فمما يستغرب ويستهجن، فالأصل اللغوي لهذه الكلمة ثابت في الكتاب والسنة، ويدل على أصل معناه الاصطلاحي قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يعتقد قلب مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة. رواه الدارمي.
وقال الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه: الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي: ما زعمه من أنَّه لَم ترِد العقيدة في حديث صحيح ولا حسن ولا موضوع: يُجاب عنه بورودها في حديث حسن، رواه الدارمي في سننه: 235 ـ عن زيد بن ثابت، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: نضَّر الله امرءاً سمع منَّا حديثاً... إلى أن قال: لا يعتقدُ قلبُ مسلم على ثلاث خصال إلاَّ دخل الجنَّة الحديث...
ـ ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة: العقيدة ـ لا في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى ـ يُجاب عنه بالنِّسبة للصحابة بما أورده ابنُ كثير في تفسيره لقول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ـ الآية، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عروة، عن عائشة قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله! وبلى والله! وكلاَّ والله! يتدارؤون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم.
وبالنِّسبة للتَّابعين: فقد أورد ابن جرير في تفسيره للآية في سورة البقرة بإسناده إلى مجاهد: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ـ ما عقدت عليه، وقال البخاري في صحيحه في باب الطلاق في الإغلاق والكره..: وقال الزهري ـ فيمَن قال: إن لَم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالقٌ ثلاثاً: يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبَه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جُعل ذلك في دَينِه وأمانته.
وأمَّا ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة: العقيدة ـ في كلام العلماء الكبار في القرون الثلاثة الأولى، وقوله: لفت نظري عدم وجود كلمة: عقيدة ـ في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى ـ فيُجاب عنه بوجود ذلك عن جماعة من العلماء في القرون الثلاثة، ومن ذلك ما هو في بعض المؤلفات المؤلَّفة في تلك القرون، ومن هؤلاء العلماء أبو عبيد القاسم بن سلاَّم المتوفى سنة: 224هـ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: الإمام المشهور، ثقة فاضل مصنِّف، قال في كتاب الإيمان له ص: 76 ـ فعمل القلب الاعتقاد ـ ومنهم إبراهيم بن خالد أبو ثور المتوفى سنة: 240هـ، قال عنه الحافظ في التقريب: الفقيه، صاحب الشافعي، ثقة، فقد روى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة: 1590ـ بإسناده إليه أنَّه قال في جواب له عن سؤال في الإيمان: اعلم ـ يرحمنا الله وإيَّاك ـ أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلب، والقولُ باللسان، وعملٌ بالجوارح، وذلك أنَّه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أنَّ الله عزَّ وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأَقَرَّ بجميع الشرائع ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنَّه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن... ومنهم الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة: 294هـ، قال عنه الحافظ في التقريب: الفقيه أبو عبد الله، ثقة حافظ إمام جبل، فقد ذكر الاعتقاد في مواضع من كتابه تعظيم قدر الصلاة، منها: 2 ـ733... إذا اعتقد أنَّ الله ليس بكريم ولا يستحق المدح الحسن فقد اعتقد الكفر ولم يعرف، وكذلك إن اعتقد أنَّه قد ظلمه وجار عليه فهو كافر لم يعرف الله.... ومنهم الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المولود سنة: 239هـ، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في لسان الميزان: قال أبو سعيد ابن يونس: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلف مثله، وهو صاحب العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية، قال في مطلعها: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وما يعتقدون من أصول الدِّين، ويَدينون به ربَّ العالَمين، نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره، ثم سرَد موضوعات العقيدة إلى آخرها... اهـ.
ثم نختم بتذكير السائل الكريم بأن أهل العلم على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم قد استعملوا هذا المصطلح دون نكير، وهذا يكفي لصرف الرشيد عن البحث في مشروعيته، والاكتفاء بمعرفة معناه وأصله!.
والله أعلم