ذكر سبحانه في كتابه العزيز حدَّ الحرابة جزاء لمن يقطع طريق المسلمين، ويسعى في الأرض فساداً، قال سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة:33).
وقد ذكر أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية بضعة أحاديث، هي:
1- أخرج النسائي، وأحمد، وأبو داود، وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نفراً من عُكْلٍ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة -أي: كرهوها- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها، وألبانها، ففعلوا، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، قال: فأُتي بهم، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمر أعينهم -أي: أحمى لها مسامير الحديد، وكحلهم بها- ولم يحسمهم -الحسم: كيُّ العروق بالنار لينقطع الدم- وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} (المائدة:33). والحديث أخرجه مسلم مختصراً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني، وقال محققو مسند الإمام أحمد: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
2- وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما،، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها، أن ناساً أغاروا على إبل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً، فبعث في آثارهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم -أي: فقأها بشوك أو غيره- قال: ونزلت فيهم آية المحاربة، وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك الحَجَّاج حين سأله. قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
3 - وأخرج أبو داود، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} إلى قوله: {غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. قال الشيخ الألباني: حسن.
وقد أورد المفسرون هذه الأحاديث وغيرها في سبب نزول الآية، منهم: الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.
واختار الإمام الطبري -بعد سياق الأقوال- أن الآية تتحدث عن بني إسرائيل، وأن حكمها يتناول أهل الإسلام، فقال: "وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك؛ لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطاً منه، يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم أولى وأحق" إلى أن قال: "فتأويلها: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة:32) يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفساد حرباً لله ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يا محمد، فإنما جزاؤه: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فإن قال لنا قائل -والكلام للطبري-: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك: إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك؛ لأن حكم من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عُنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحاً نزولها فيمن نزلت فيه" (انتهى كلام الطبري).
وقال ابن العربي: "ومن قال إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عُكْلاً وعُرينة ارتدوا، وقتلوا، وأفسدوا، ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما يسقط قبلها، وقد قيل للكفار: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال:38) وقال في المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة:34) وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا يُنفى، وفيها قطع اليد، والرِّجل، والمرتد لا تقطع له يد، ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون، ولا المرتدون" (انتهى كلام ابن العربي).
وقال ابن عطية: "ويشبه أن تكون نازلة في بني قريظة، حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة والحسن: نزلت الآية في المشركين، وفي هذا ضعف؛ لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال". ثم ذكر من قال إنها نزلت في عُكْل وعُرَيْنَة.
وقال القرطبي: "اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العُرَنَيِّين". ثم ساق الحديث، ونقل قول من قال: "إنها نزلت في المشركين"، وقال: "وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال:38) وقوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يهدم ما قبله) أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجاً لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة:34) وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا، فأسلموا، أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام" (انتهى كلام القرطبي).
وقال ابن كثير: "والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين، وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات".
وقال ابن عاشور: "نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، وبه يُشعر صنيع البخاري؛ إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير، وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العُرَنيِّين".
فتحصَّل من نقول المفسرين في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال:
الأول: أن الآية نزلت في اليهود؛ لأن سياق الآيات قبل الآية وبعدها يتحدث عن بني إسرائيل. وهذا قول الطبري ومن وافقه.
الثاني: أن الآية نزلت في المشركين، وحجتهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم، حيث قال: (نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقْدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه).
الثالث: أنها نزلت في العُرَنِيِّين، لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. قال بهذا القول القرطبي، وأضافه إلى جمهور المفسرين.
الرابع: أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، قال بهذا القول: مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وقد عقَّب ابن العربي على ما اختاره الطبري من أن الآية نزلت في اليهود، بقوله: "وهذا ما لم يصح؛ فإنه لم يبلغنا أن أحداً من اليهود حارب، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء".
على أن احتجاج الطبري بالسياق ليس بظاهر؛ لأن الآيات تتحدث عن الفساد في الأرض عموماً ابتداء بابني آدم حيث قتل أحدهما أخاه، ثم ذكر بني إسرائيل وفسادهم، ثم التحذير من الحرابة والفساد في الأرض، وأعقب ذلك بعقوبة السرقة، وحد القطع، فالآيات تتحدث عن الفساد في الأرض انتقالاً من طائفة إلى أخرى، ومن أمة إلى أمة، ومن نوع إلى نوع، حيث بدأ بالقتل، وختم بالسرقة.
أما القول بأن الآية نزلت في العُرنيين؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك، فإنه قد تبين من دراسة أسانيد هذه الأحاديث، أن ذكر نزول الآية فيها وهم، وبناء على هذا، فلا دليل حينئذ على أن الآية نازلة بسببهم، وإذا كان الأمر دائراً بين وجود السبب وعدمه، فالأصل العدم حتى يقوم دليل صحيح صريح على ذلك.
فلم يبق إلا القول الرابع، وهو أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، وهذا هو الصحيح. قال ابن أبي عمر: "وهذه الآية في قول ابن عباس، وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، وبه يقول مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي".
ثم إن القول بأنها (نزلت) ليس المراد منه أن لها سبباً نزلت عليه، بل المراد أن لفظها يتناول أحكام قطاع الطريق، وإلا فالزمن بعيد بين قصة العُرَنيين، حيث دارت أقوال العلماء حولها في سنة ست، وبين نزول سورة المائدة الذي تأخر كثيراً.
والحاصل: أن حديث العُرَنيين المذكور ليس سبباً لنزول الآية، حيث لم يثبت من جهة الإسناد ذكر النزول، مع ما بين القصة ونزول آية المائدة من الزمن الطويل.
وقد ذكر أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية بضعة أحاديث، هي:
1- أخرج النسائي، وأحمد، وأبو داود، وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نفراً من عُكْلٍ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة -أي: كرهوها- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها، وألبانها، ففعلوا، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، قال: فأُتي بهم، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمر أعينهم -أي: أحمى لها مسامير الحديد، وكحلهم بها- ولم يحسمهم -الحسم: كيُّ العروق بالنار لينقطع الدم- وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} (المائدة:33). والحديث أخرجه مسلم مختصراً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني، وقال محققو مسند الإمام أحمد: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
2- وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما،، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها، أن ناساً أغاروا على إبل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً، فبعث في آثارهم، فأُخذوا، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم -أي: فقأها بشوك أو غيره- قال: ونزلت فيهم آية المحاربة، وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك الحَجَّاج حين سأله. قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
3 - وأخرج أبو داود، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} إلى قوله: {غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. قال الشيخ الألباني: حسن.
وقد أورد المفسرون هذه الأحاديث وغيرها في سبب نزول الآية، منهم: الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.
واختار الإمام الطبري -بعد سياق الأقوال- أن الآية تتحدث عن بني إسرائيل، وأن حكمها يتناول أهل الإسلام، فقال: "وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك؛ لأن القصص التي قصها الله جل وعز قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطاً منه، يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم أولى وأحق" إلى أن قال: "فتأويلها: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة:32) يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفساد حرباً لله ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يا محمد، فإنما جزاؤه: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فإن قال لنا قائل -والكلام للطبري-: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك: إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك؛ لأن حكم من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عُنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحاً نزولها فيمن نزلت فيه" (انتهى كلام الطبري).
وقال ابن العربي: "ومن قال إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عُكْلاً وعُرينة ارتدوا، وقتلوا، وأفسدوا، ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما يسقط قبلها، وقد قيل للكفار: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال:38) وقال في المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة:34) وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا يُنفى، وفيها قطع اليد، والرِّجل، والمرتد لا تقطع له يد، ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون، ولا المرتدون" (انتهى كلام ابن العربي).
وقال ابن عطية: "ويشبه أن تكون نازلة في بني قريظة، حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة والحسن: نزلت الآية في المشركين، وفي هذا ضعف؛ لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال". ثم ذكر من قال إنها نزلت في عُكْل وعُرَيْنَة.
وقال القرطبي: "اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العُرَنَيِّين". ثم ساق الحديث، ونقل قول من قال: "إنها نزلت في المشركين"، وقال: "وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال:38) وقوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يهدم ما قبله) أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجاً لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة:34) وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا، فأسلموا، أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام" (انتهى كلام القرطبي).
وقال ابن كثير: "والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين، وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات".
وقال ابن عاشور: "نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، وبه يُشعر صنيع البخاري؛ إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير، وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العُرَنيِّين".
فتحصَّل من نقول المفسرين في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال:
الأول: أن الآية نزلت في اليهود؛ لأن سياق الآيات قبل الآية وبعدها يتحدث عن بني إسرائيل. وهذا قول الطبري ومن وافقه.
الثاني: أن الآية نزلت في المشركين، وحجتهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم، حيث قال: (نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقْدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه).
الثالث: أنها نزلت في العُرَنِيِّين، لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. قال بهذا القول القرطبي، وأضافه إلى جمهور المفسرين.
الرابع: أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، قال بهذا القول: مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وقد عقَّب ابن العربي على ما اختاره الطبري من أن الآية نزلت في اليهود، بقوله: "وهذا ما لم يصح؛ فإنه لم يبلغنا أن أحداً من اليهود حارب، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء".
على أن احتجاج الطبري بالسياق ليس بظاهر؛ لأن الآيات تتحدث عن الفساد في الأرض عموماً ابتداء بابني آدم حيث قتل أحدهما أخاه، ثم ذكر بني إسرائيل وفسادهم، ثم التحذير من الحرابة والفساد في الأرض، وأعقب ذلك بعقوبة السرقة، وحد القطع، فالآيات تتحدث عن الفساد في الأرض انتقالاً من طائفة إلى أخرى، ومن أمة إلى أمة، ومن نوع إلى نوع، حيث بدأ بالقتل، وختم بالسرقة.
أما القول بأن الآية نزلت في العُرنيين؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك، فإنه قد تبين من دراسة أسانيد هذه الأحاديث، أن ذكر نزول الآية فيها وهم، وبناء على هذا، فلا دليل حينئذ على أن الآية نازلة بسببهم، وإذا كان الأمر دائراً بين وجود السبب وعدمه، فالأصل العدم حتى يقوم دليل صحيح صريح على ذلك.
فلم يبق إلا القول الرابع، وهو أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، وهذا هو الصحيح. قال ابن أبي عمر: "وهذه الآية في قول ابن عباس، وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، وبه يقول مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي".
ثم إن القول بأنها (نزلت) ليس المراد منه أن لها سبباً نزلت عليه، بل المراد أن لفظها يتناول أحكام قطاع الطريق، وإلا فالزمن بعيد بين قصة العُرَنيين، حيث دارت أقوال العلماء حولها في سنة ست، وبين نزول سورة المائدة الذي تأخر كثيراً.
والحاصل: أن حديث العُرَنيين المذكور ليس سبباً لنزول الآية، حيث لم يثبت من جهة الإسناد ذكر النزول، مع ما بين القصة ونزول آية المائدة من الزمن الطويل.